كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله تعالى: {وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} يقال فيه ما قيل في نظيره في الآية السابقة، وحاصله أنّ المراد بحفظ الفروج البعد عن الزنى والسحاق، أو سترها حتى لا يراها أحد، أو أنّ المراد الأمران جميعا.
{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها} الزينة في الأصل اسم لكل ما يتزين به ويتجمل من أنواع الحلي والخضاب وغيرها.
وقد اختلف العلماء في المراد بالزينة في الآية، فحملها بعضهم على معناها الحقيقي، إذ كان لا يصحّ العدول عنه متى أمكنت إرادته، وقال: إنّ الكلام دائر حول الزينة نفسها، والنهي منصبّ على إبدائها ذاتها، بدليل قوله تعالى فيما سيأتي: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} ومعلوم أن ليس المراد أنهن منهيات عن إبداء الزينة مطلقا، حتى ولو كانت معروضة في منديل للبيع في الأسواق، بل المراد أنهنّ منهيات عن إبداء الزينة حين التحلي بها، واستعمالها في مواقعها، وحينئذ يكون إبداء مواقع الزينة منهيا عنه من باب أولى، فإنّه ما نهي عن الزينة إلا لملابستها تلك المواقع، فكان إبداء المواقع نفسها متمكنا في الحظر، ثابت القدم في الحرمة.
ومنهم من قال: إن المراد من الزينة مواقعها من الأعضاء، إما بطريق تقدير مضاف، والأصل: ولا يبدين مواقع زينتهن. وإما بطريق إطلاق الزينة وإرادة مواقعها لقوة الملابسة بينهما. والصارف عن المعنى الحقيقي أنّ الزينة نفسها ليست مقصودة بالنهي، بدليل أنّ ما استنثني منها في قوله تعالى: {إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها} قد فسره كثير من الصحابة والتابعين بالوجه والكفين، وظاهر أنّ المستثنى من جنس المستثنى منه، فيكون المراد من الزينة مواقعها من البدن.
يؤيّد هذا ما رواه أبو داود عن عائشة أنّ أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها، وقال: «يا أسماء إنّ المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح لها أن يرى منها إلا هذا وهذا» وأشار إلى وجهه وكفيه، فإنّ هذا الحديث الشريف في معنى الآية.
وظاهر قوله تعالى: {إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها} أنّ النساء منهيات عن إبداء الزينة إلا الزينة التي ظهرت، فلسن منهيات عن إبدائها، وهو معنى لا يكاد يستقيم، لأنّ ما ظهر بالفعل فقد بدا فلا يقال فيه: إنهن غير منهيات عن إبدائه، وحينئذ فلابد من تأويل في الكلام، وذلك بأحد وجوه ثلاثة:
الأول: أن الاستثناء هنا منقطع، والمعنى عليه: ولا يبدين زينتهن أبدا، لكن ما ظهر منها بنفسه ومن غير قصد فهو عفو، كأن كشفت الريح عن نحرها أو ساقها.
الثاني: أن المستثنى منه محذوف دل عليه النهي، فكأنه قيل: ولا يبدين زينتهن، وهنّ مؤاخذات على إبداء زينتهن، إلا ما ظهر منها بنفسه، فلسن مؤاخذات عليه.
وعلى هذين التأويلين لا يكون ما ظهر من الزينة شيئا معيّنا.
والثالث: أنّ معنى ما ظهر: ما جرت العادة وقضت الحاجة بظهوره، وكان في ستره حرج ومشقة في المتعارف بين الناس: أي ولا يبدين شيئا من زينتهن إلا شيئا جرت العادة بظهوره، فلسن منهيات عن إبدائه، وذلك هو الوجه والكفّين وما فيهما من زينة كالكحل والخضاب والخاتم، وعلى هذا التأويل تكون الزينة نوعين: ظاهرة وباطنة، فاللّه قد حظر إبداء شيء من الزينة الباطنة لغير من استثني فيما يأتي، ولم يحظر إبداء الزينة الظاهرة، لأنّ الحاجة تقضي بظهورها كما علمت. وتعميم النهي أولا، ثم الاستثناء منه ثانيا مشعر بأنّه ينبغي للنساء أن يحتطن في الستر، ولا يبدين من زينتهن الظاهرة إلا ما تدعو حاجتهن إلى إبدائه.
وعلى الاختلاف في تأويل الآية انبنى خلاف الأئمة في آرائهم ومذاهبهم في عورة المرأة، فالحنفية والمالكية على أنّ الوجه والكفين ليسا بعورة، وهو أحد قولي الشافعي، ويشهد لهم ما تقدم من قوله صلّى اللّه عليه وسلّم: «يا أسماء إنّ المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح لها أن يرى منها إلا هذا وهذا» وأشار إلى وجهه وكفيه.
وفي رواية عن أبي حنيفة رضي اللّه عنه: أن القدمين ليستا من العورة أيضا. نظر في ذلك إلى أنّ الحرج في سترهما أشدّ منه في ستر الكفين، لاسيما بالنسبة إلى أكثر نساء القرى الفقيرات، اللاتي يمشين لقضاء مصالحهن في الطرقات.
وعن أبي يوسف أن الذراعين ليستا بعورة كذلك، لما في سترهما من الحرج، فأنت ترى أصحاب هذا القول قد نحوا في الآية منحى التأويل الأخير، وأنّ المراد أنهنّ منهيات عن إبداء زينتهن إلا ما دعت الحاجة إلى ظهوره وجرى عرف الناس في عصر التنزيل على أنه من الزينة الظاهرة التي لم يحظر إبداؤها.
وذهب الإمام أحمد إلى أن بدن الحرة كلّه عورة، فيحرم إبداء شيء منه للأجنبي، وهو أصحّ قولي الشافعي، وأصحاب هذا الرأي تأولوا الآية على أحد الوجهين: الأول والثاني، وأن المراد ما ظَهَرَ: ما ظهر بنفسه من غير قصد إلى إظهاره، ويشهد لذلك من السنة: ما رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي عن جرير بن عبد اللّه قال: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن نظرة الفجأة فقال: «اصرف بصرك».
وما رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن بريدة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لعلي: «يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى، وليست لك الآخرة».
وما رواه البخاري عن ابن عباس أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أردف الفضل بن العباس يوم النحر خلفه- وفيه قصة المرأة الوضيئة الخثعمية- فطفق الفضل ينظر إليها، فأخذ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بذقن الفضل، فحوّل وجهه عن النظر إليها.
وقول اللّه تعالى: {وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعًا فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ} [الأحزاب: 53] وهو- وإن كان السبب فيه أزواج النبي صلّى اللّه عليه وسلم فإنّ الحكم يتناول غيرهن بطريق القياس عليهن.
ولعلك إذا نظرت إلى أنّ الشريعة سهلة سمحة لا حرج فيها ولا مشقة، ترجّح القول بأنّ الوجه والكفين من الأجنبية ليسا من العورة، فإنّ في تكليف النساء ستر الوجه والكفين حرجا ومشقة عليهن، لاسيما الفقيرات اللاتي ليس لهن خدم، فيضطرون إلى قضاء حاجاتهن من الأسواق بأنفسهنّ.
وينبغي أن يكون القول بهذا خاصّا بالحالات التي تؤمن فيها الفتنة، أما في غيرها من الحالات التي نخشى فيها الفتنة، وفي الأوقات التي يكثر فيها الفساق في الأسواق والطرقات، فلا يجوز للمرأة أن تخرج سافرة عن وجهها، ولا أن تبدي شيئا من زينتها.
فأما قول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لجرير بن عبد اللّه: «اصرف بصرك»، وقوله لعلي بن أبي طالب: «لا تتبع النظرة...»، فمعناها النهي عن تعمد النظر إلى شيء من بدن المرأة لغير حاجة، فإن تعمد النظر إليها حينئذ لا يخلو عن ريبة، وقد أمرنا بالبعد عن مظانّ التهم والريبة.
وأما صرف النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وجه الفضل عن النظر إلى الخثعمية. فإنما كان ذلك لمخافة الفتنة، فقد أخرج الترمذي وصححه: أنّ العباس بن عبد المطلب قال للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم: لويت عنق ابن عمك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «رأيت شابا وشابة فلم آمن عليهما الفتنة».
فكان في ذلك دليل على جواز النظر عند أمن الفتنة، ولو لم يفهم العباس أنّ النظر جائز ما قال مقالته، ولو لم يكن ما فهمه صحيحا ما أقرّه عليه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم.
وأما قوله تعالى: {وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعًا فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ} فحكمه خاصّ بأزواج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لما أنّ لهن من الحرمة ما ليس لغيرهن من النساء، فلا يقاس غيرهن عليهن في ذلك.
هذا وقد استثنت الشريعة حالات يباح فيها للأجنبي أن ينظر من بدن المرأة إلى ما تقضي الضرورة بالنظر إليه فللخاطب والشاهد والقاضي والعامل أن يرى الوجه، حتى على رأي القائلين بأن بدن المرأة كله عورة، وكذلك للطبيب أن يرى موضع العلاج، وللشاهد بالزنى أن يرى ما يصحح له الشهادة.
{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ}. والضرب: معناه السدل والإرخاء.
والخمر: جمع خمار، وهو ما تغطي به المرأة رأسها، مأخوذ من الخمر بمعنى الستر والتغطية.
والجيوب: جمع جيب. وهو فتحة في أعلى القميص يبدو منها بعض النحر.
في هذا الأمر إرشاد من اللّه، وتعليم للنساء كيف يسترن بعض مواضع الزينة الباطنة منهن، أمرهن أن يرخين الخمر على جيوبهن، ليسترن الصدور والنحور، ولا يكنّ كنساء الجاهلية، إذ كانت إحداهنّ تضع خمارها على رأسها، ثم تلقي أطرافه وجوانبه من خلفها. وكانت تمشي بين الرجال هكذا، يظهر منها نحرها وصدرها. وفي ذلك دليل على أن صدر المرأة ونحرها عورة. لا يجوز للأجنبي النظر إليهما منها.
{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} قد تبين مما تقدّم أنّه لا يجوز للمرأة أن تبدي من زينتها خلاف ما استثناه اللّه تعالى بقوله: {إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها} فحرام عليها أن تبدي معصمها أو ساقها أو جيدها أو شيئا من مواقع الزينة الباطنة منها.
أما قوله سبحانه: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} إلخ فالمقصود منه استثناء البعولة ومن عطف عليهم من عموم من نهيت المرأة عن إبداء الزينة الباطنة له.
أما البعولة وهم الأزواج، ويلحق بهم من له حق التسرّي من السادة، فالأمر فيهم ظاهر. وأما سائر من استثنى اللّه فللحاجة إلى مخالطتهم مع أمن الفتنة.
استثنت الآية نوعين لأجل المصاهرة: آباء الأزواج وأبناء الأزواج، وليس وراء هذين النوعين من المحارم بالمصاهرة أحد.
واستثنت من المحارم بالنسب خمسة أنواع: هم آباء النساء، وأبناؤهن وإخوتهن، وأبناء إخوتهن وأبناء أخواتهن. ولم تذكر من المحارم الأعمام والأخوال، كما أنها لم تذكر المحارم بالرضاع. والفقهاء مجمعون على أنّ حكم هؤلاء كحكم المذكورين في الآية. أما عدم ذكر الأعمام والأخوال فلعلّ السر فيه أنّ العمومة والخئولة بمنزلة الأبوة، فكان ذكر الآباء مغنيا عن ذكر الأعمام والأخوال، وأما المحارم من الرضاع فعدم ذكرهم للاكتفاء ببيان السنة: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب».
والأنواع الباقية: هي النساء، والمماليك، والتابعون غير أولي الأربعة، والأطفال.
فأما النساء والمماليك فقد قال اللّه تعالى فيهم: {أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ} وللعلماء خلاف في المراد بكل نوع من هذين النوعين، فذهبت طائفة إلى أنّ المراد بالنساء ما يعمّ الحرائر والإماء، وعليه يكون المراد بما ملكت أيمانهنّ خصوص العبيد، لأنّ الإماء قد دخلن في النساء. وحينئذ يحل للمرأة أن تبدي زينتها الباطنة للنساء الحرائر والإماء، ولمن تملكه من العبيد، لأنّهم في ذلك ملحقون بذوي المحارم. وبهذا قال ابن عباس وعائشة وأم سلمة وكثير من السلف وهو مذهب مالك، وأحد قولي الشافعي. ويؤيده ما رواه أحمد وأبو داود وابن مردويه والبيهقي عن أنس رضي اللّه عنه أنّ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أتى فاطمة رضي اللّه عنها بعبد قد وهبه لها، وعلى فاطمة ثوب إذا قنّعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ما تلقى قال: «إنّه ليس عليه بأس، إنما هو أبوك وغلامك».
وذهبت طائفة إلى أنّ المراد بالنساء خصوص الحرائر، لأنّ المراد بما ملكت أيمانهن خصوص الإماء، وذلك لأنّ العبد فحل غير محرم ولا زوج، والشهوة فيه متحققة، والحاجة إلى الخلطة به قاصرة، فكان هو والحر الأجنبي في التحريم سواء، وحرمة النكاح بينه وبين سيدته عارضة كحرمة أخت الزوجة، وما زاد على الأربع والأمة المزوجة بالغير، فدلّ ذلك على أنّ قوله تعالى: {أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ} لا يشمل العبيد، وأنّه لبيان حكم الإماء لا غير، فوجب أن يكون قوله تعالى: {أَوْ نِسائِهِنَّ} مقصورا على الحرائر، لا يتناول الإماء، وإلا كان قوله تعالى: {أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ} لغوا. وعلى هذا لا يجوز للمرأة أن تبدي لعبدها من زينتها إلا ما يجوز أن تبديه للأجنبي، ولا يحلّ له أن ينظر من سيدته إلا ما يحل له أن ينظر إليه من الأجنبية، وبهذا قال ابن مسعود ومجاهد والحسن وابن سيرين، وكذا ابن المسيّب، فقد روي أنه رجع إليه وقال: لا تغرنّكم سورة النور فإنّها في الإناث لا في الذكور. وهو مذهب الحنفية وأحد قولي الشافعي، ويؤيده قوله صلّى اللّه عليه وسلّم: «لا يحلّ لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تسافر سفرا فوق ثلاث إلا مع ذي محرم» والعبد ليس بذي محرم فلا يجوز لها أن تسافر معه.
وحينئذ لا يجوز لها أن تبدي له من زينتها ما تبديه لمحارمها.
وأجاب أصحاب هذا القول عن حديث أنس السابق بأنّ العبد كان صغيرا إذ إنّ الغلام حقيقة في غير البالغ.